تُعد الحساسية من أكثر الحالات الصحية شيوعاً وإزعاجاً، فمسبباتها تحيط بنا في كل مكان، من الغبار والعطور وصولاً إلى الطعام والهواء. ولكن، ما هي الحساسية حقاً؟ ولماذا يصاب بها البعض دون غيرهم؟ كيف نميزها عن نزلات البرد؟ وهل يمكن الوقاية منها أو الشفاء التام عبر العلاج المناعي؟ للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها، التقينا الدكتورة نور جرعتلي، استشارية طب الأذن والأنف والحنجرة والحساسية في مدينة الشيخ شخبوط الطبية، والحاصلة على البورد الألماني في الحساسية، بخبرة تمتد لأكثر من 16 عاماً في هذا المجال.
بدايةً… ما المقصود بالحساسية؟ تشرح الدكتورة نور الأمر ببساطة فتقول: «الحساسية هي ردة فعل غير طبيعية من الجهاز المناعي تجاه مواد معينة في البيئة المحيطة، مواد تكون عادة غير ضارة لمعظم الناس، مثل الغبار، حبوب اللقاح، وبر الحيوانات، وبعض الأطعمة أو الأدوية». وتضيف: «عندما يتعرض المصاب بهذه المواد، يُنتج جسمه أجساماً مضادة تُسمى IgE، ترتبط بخلايا معينة في الأنف، الجلد، أو الرئتين، ما يؤدي إلى إفراز مواد مثل الهيستامين، مسببة الأعراض التحسسية: عطاس، سيلان أنف، كحة، أكزيما جلدية أو حتى ضيق تنفس».
أنواع الحساسية.. دائمة وموسمية
في سؤال عن أنواع الحساسية وكيفية التعامل معها، توضح الدكتورة نور أن الحساسية تصنف بشكل رئيسي إلى نوعين: الحساسية الدائمة (المزمنة) والحساسية الموسمية. في الحالة الأولى، تستمر الحساسية على مدار العام وتُعزى غالباً لمثيرات داخلية مثل عثة الفراش، وبر الحيوانات، والعفن، وتظهر بأعراض مثل انسداد الأنف والسعال المزمن والأكزيما الجلدية. وللتحكم بها، تؤكد الدكتورة نور على ضرورة تقليل التعرض للمثيرات المنزلية من خلال غسل المفروشات أسبوعياً بماء حار (60-90 درجة مئوية)، استخدام أغطية واقية مضادة للحساسية، الحفاظ على رطوبة منزلية أقل من 50%، وتجنب السجاد والستائر الثقيلة. أما الحساسية الموسمية، فتحدث في فترات محددة من السنة، وعادة ما يكون سببها حبوب اللقاح من الأشجار أو الأعشاب، وتظهر أعراضها مع تغير الفصول، خاصة في الربيع والخريف، وتشمل العطاس، سيلان الأنف، وحكة في العينين أو الأنف، وقد يصل الأمر أحياناً إلى ضيق في التنفس. أما بالنسبة للتعامل مع الحساسية الموسمية الناتجة عن الحساسية على حبوب الطلع، فتؤكد الدكتورة نور جرعتلي على أهمية البدء المبكر في العلاج الوقائي، مشيرة إلى ضرورة عدم انتظار ظهور الأعراض. وأوضحت أنه إذا كان المريض يعتمد على العلاج عند الضرورة، فيُفضل أن يبدأ باستخدام بخاخات الأنف أو الصدر أو مضادات الهيستامين قبل أسبوعين على الأقل من بدء الموسم، لتقليل حدة الأعراض وتجنب التفاقم الذي قد يؤدي إلى حالات طارئة. وأضافت الدكتورة جرعتلي محذرة من الخروج إلى المناطق البرية في فصل الخريف، حيث يزيد ذلك من التعرض لمسببات الحساسية مثل حبوب لقاح النباتات البرية كـ«الرنث». ولتقليل هذه الأعراض، أشارت إلى أهمية ارتداء الكمامة (حتى الطبية العادية) وإغلاق نوافذ السيارة أثناء القيادة في المناطق الزراعية أو الصحراوية.كما شددت الدكتورة على أهمية الالتزام بالخطة العلاجية، وعدم إيقاف الدواء فجأة حتى لو شعر المريض بالتحسن، وذلك لأن الحساسية الموسمية قد تمتد لأسابيع، والانقطاع عن العلاج قد يؤدي إلى عودة الأعراض. واختتمت الدكتورة جرعتلي بالتأكيد على أهمية الاهتمام بنظافة المنزل، بتقليل دخول الغبار وحبوب اللقاح، وغسل الوجه والعينين والأنف بعد العودة من الخارج، بالإضافة إلى تنظيف فلاتر المكيفات أو أجهزة تنقية الهواء بانتظام.هل يمكن تشخيص الحساسية بدقة؟ تؤكد الدكتورة نور أن «التشخيص هو المفتاح»، موضحة أن الكثير من الناس يعالجون أعراض الحساسية كما لو كانت زكاماً عادياً، ما يؤخر العلاج الحقيقي.
ويتم التشخيص من خلال: أولاً، أخذ السيرة المرضية الدقيقة. ثانياً اختبار الجلد: حيث يتم وخز الجلد بكميات صغيرة من المواد المسببة للحساسية. وثالثاً، تحليل الدم المتقدم: لقياس مستوى IgE وتحديد شدة التفاعل.
العلاج: بين الدواء والوقاية والتطعيم المناعي
تشرح الدكتورة نور أن هناك طرقاً عدة لعلاج الحساسية، بدءاً من الوقاية بتجنب المسببات قدر الإمكان، مروراً بالعلاج الدوائي المناسب، وصولاً إلى العلاج المناعي الذي يُعد ثورة في التعامل مع الحساسية. وتوضح الطبيبة نور جرعتلي أن العلاج المناعي يعطى سواء تحت اللسان أو عن طريق الحقن تحت الجلد، بهدف «تدريب» الجهاز المناعي على التكيف مع المسبب دون إحداث رد فعل تحسسي. ويتم ذلك بإعطاء جرعات مدروسة من المادة المسببة للحساسية على مدار 3 إلى 5 سنوات، ما يؤدي إلى تقبل الجسم لها تدريجياً. وتتابع مضيفة أن هذه الطريقة تتميز بفعاليتها العالية، التي تُعتبر الأقرب إلى «الشفاء» من الحساسية، خاصة في الحالات التي يصعب فيها تجنب المسببات مثل حبوب اللقاح أو الغبار. وتطمئن الدكتورة نور أن الأعراض الجانبية غالباً ما تكون خفيفة كالعطاس أو الحكة، إلا أنه في حالات نادرة جداً قد تحدث حساسية مفرطة، لذا يتم إعطاء الجرعة تحت إشراف طبي مع مراقبة المريض بعد الحقن.
بالإضافة إلى العلاج المناعي، تقول الدكتورة نور أن أدوية أخرى شائعة تستخدم في علاج الحساسية، ومنها مضادات الهيستامين التي تعد فعالة في تقليل العطاس والحكة وسيلان الأنف، مع ملاحظة أن بعضها قد يسبب النعاس أو الخمول، لذا يُفضل تناولها مساءً خاصة الأنواع القديمة منها. كما تُستخدم بخاخات الربو وموسعات الشعب الهوائية مثل السالبوتامول، والتي قد تسبب رعشة خفيفة أو تسارعاً في نبض القلب عند الاستخدام المفرط. أما الكورتيزون، سواء الموضعي أو البخاخات، فهو آمن جداً عند استخدامه بالبخاخات لعدم وصول كميات كبيرة منه إلى الدم، ويختلف تماماً عن الكورتيزون الذي كان يُعطى فموياً أو بالحقن بجرعات كبيرة في الماضي. وتؤكد الدكتورة أن الوعي الطبي الحديث ساهم في تصحيح المفاهيم الخاطئة حول الكورتيزون، وأصبح استخدامه الصحيح يحقق فائدة عظيمة دون مضاعفات تُذكر.
رسالة توعوية
تختتم الدكتورة نور جرعتلي حديثها بالإشارة إلى أن التوعية الصحية والعلاج المبكر يمكن أن يغيرا مجرى حياة مريض الحساسية بالكامل. لهذا لا يجب أن تكون الحساسية عائقاً أمام حياة طبيعية ونشيطة. فمع التشخيص الدقيق والعلاج المناسب، يمكن السيطرة عليها والتمتع بحياة مريحة وآمنة.
5 أسئلة.. وأجوبة
- هل يمكن أن تتطور الحساسية فجأة في سن متقدمة؟
نعم، يمكن للحساسية أن تتطور في أي عمر، حتى لدى البالغين الذين لم يعانوا منها سابقاً، وذلك بسبب تغيرات بيئية، أو التعرض المتكرر لمسببات معينة، أو تغيرات في الجهاز المناعي.
- هل هناك علاقة بين التوتر النفسي والحساسية؟
التوتر والضغط النفسي لا يسببان الحساسية بشكل مباشر، ولكنهما قد يفاقمان الأعراض لدى المصابين، إذ يضعفان الجهاز المناعي ويزيدان من إفراز مواد كيميائية تحفز التفاعلات التحسسية.
3 . هل يمكن أن تؤثر الحساسية على النوم وجودته؟
بالتأكيد، فالحساسية، خاصة الأنفية والصدرية، قد تسبب انسداد الأنف، السعال الليلي، أو ضيق التنفس، ما يعيق النوم ويؤدي إلى الأرق أو التقطع، لذا فإن معالجة الأعراض بانتظام يحسن جودة النوم بشكل كبير.
4 . ما الفرق بين الحساسية وعدم التحمل الغذائي؟
الحساسية الغذائية هي رد فعل مناعي حاد ومفاجئ قد يكون خطيراً، بينما عدم التحمل الغذائي هو خلل في عملية الهضم لا يشمل الجهاز المناعي، وتكون أعراضه تدريجية وليست مهددة للحياة.
5 . هل توجد علاجات طبيعية أو بديلة يمكن أن تُخفف من أعراض الحساسية؟
بعض الأشخاص يستخدمون علاجات طبيعية مثل العسل المحلي أو بخار الأعشاب، ويُنصح باستخدام فلاتر الهواء الطبيعية وتنظيف المنزل بمنتجات خالية من الروائح الصناعية. ومع ذلك، من الضروري استشارة الطبيب قبل الاعتماد على هذه البدائل، خاصة في حالات الحساسية الشديدة.
المصدر : زهرة الخليج